مارية القبطية رضي الله عنها
رشيد أبو السمح
هي مارية بنت شمعون القبطية، مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم ولده إبراهيم، لم تحظ بلقب "أم المؤمنين" لكنها حظيت بشرف أمومتها لإبراهيم وبالصحبة، وقد كانت نصرانيَّة ثم أسلمت رضي الله عنها.
أورد ابن سعد بسنده في الطبقات « عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما" (1)، قال: ورحمهم أن أم إسماعيل بن إبراهيم منهم، وأم إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم منهم ».
ومارية القبطية رضي الله عنها من إماء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، لا من أزواجه اللاتي هن أمهات المؤمنين، قال الله تعالى : [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] (الأحزاب/6).
فهي رضي الله عنها لم تكن زوجة حرة معقودًا عليها، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطؤها بملك اليمين، وقد كان له صلَّى الله عليه وسلَّم أربع إماء، منهن مارية.
ولدت مارية القبطية في بلدة جفن القريبة من (أرضنا) بصعيد مصر، أمها نصرانية رومية، وانتقلت مع أختها سيرين -وقيل شيرين- إلى قصر المقوقس عظيم القبط في مطلع شبابها الباكر.
وعندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عقب صلح الحديبية كتبا إلى ملوك العالم يدعوهم فيها إلى الإسلام، اختار حاطب بن أبي بلتعة ليرسله بكتابه إلى المقوقس ملك مصر. وبعدما تلقى المقوقس كتاب رسول الله رد عليه وبعث مع الرسول بالجاريتين (مارية وأختها سيرين) وبمجموعة أخرى من الهدايا.
مكانتها في بيت النبوة :
قال ابن سعد : « بعث المقوقس صاحب الإسكندرية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من الهجرة بمارية وبأختها سيرين، وألف مثقال ذهبا، وعشرين ثوبا لينا، وبغلته الدلدل وحماره عفير، ومعهم خصي يقال له مابور.. ، وبعث بذلك كله مع حاطب بن أبي بلتعة..
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معجبا بأم إبراهيم، وكانت بيضاء جميلة، فأنزلها في العالية في المال الذي يقال له اليوم مشربة أم إبراهيم، وكان رسول الله يختلف إليها هناك وضرب عليها الحجاب، وكان يطأها بملك اليمين.
فلما حملت وضعت هناك وقبلتها سلمى مولاة رسول الله فجاء أبو رافع زوج سلمى، فبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبراهيم..، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان. وتنافست الأنصار في إبراهيم وأحبوا أن يفرغوا مارية للنبي صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من هواه فيها، ... وقالت عائشة : "ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة من النساء جعدة، وأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا، فكان رسول الله عامة النهار والليل عندها، حتى فرغنا لها فجزعت فحولها إلى العالية فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا، ثم رزق الله منها الولد وحرمنا منه".. » (2).
وقال أيضا: « فأنزلها –يعني مارية القبطية- رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأختها على أم سليم بنت ملحان فدخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام فأسلمتا فوطئَ مارية بالملك، وحولها إلى مال له بالعالية … وكانت حسنة الدِّين »(3) .
وقال الحافظ ابن كثير: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجب بمارية القبطية، وكانت بيضاء جعدة جميلة، فأنزلها وأختها على أم سليم بنت ملحان، فدخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام فأسلمتا هناك، فوطئ مارية بالملك، وحولها إلى مال له بالعالية كان من أموال بني النضير، فكانت فيه في الصيف وفي خرافة النخل، فكان يأتيها هناك وكانت حسنة الدين، ووهب أختها شيرين لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن » (4).
مكانة مارية في القرآن الكريم :
قال ابن سعد : « كانت أم إبراهيم سرية النبي صلى الله عليه وسلم في مشربتها، ...وكان صلى الله عليه وسلم حرم أم إبراهيم فقال هي علي حرام، وقال والله لا أقربها، فنزلت [قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم] ، ..فالحرام حلال في الإماء إذا قال الرجل لجاريته أنت علي حرام، فليس بشيء وإذا قال والله لا أقربك فعليه الكفارة، ...وأنزل الله [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ] الآية » (5).
وروى النسائي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه فأنزل الله عز وجل [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ] إلى آخر الآية" (6).
وهكذا نرى ما لمـارية رضي الله عنها من شأن في الآيات المباركات، وفي أحداث السيرة النبوية، أنزل الله عز وجل صدر سورة التحريم بسببها، وأوردها العلماء والفقهاء والمحدثون والمفسرون في أحاديثهم وتصانيفهم، وقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنها راض، مارية التي تشرفت بالبيت النبوي الطاهر، وعُدَّت من أهله، وكانت شديدة الحرص على اكتساب مرضاة النبي صلى الله عليه وسلم، كما عرفت بدينها وورعها وعبادتها.
مارية الأم :
بعد مرور عام على قدومها إلى المدينة، حملت مارية وفرح النبي صلى الله عليه وسلم لسماع هذا الخبر، فقد كان قد قارب الستين من عمره وفقد جميع أولاده ما عدا فاطمـة الزهراء رضوان الله عليها. فولدت مـارية في شهر ذي الحجة من السنة الثامنة للهجرة النبوية الشريفة طفلاً جميلاً يشبهه صلى الله عليه وسلم، وسماه إبراهيم تيمناً بأبيه إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، وبهذه الولادة أصبحت مـارية حرة.
قال الحافظ ابن كثير : « وولدت مارية لرسول الله غلاما سماه إبراهيم، وعق عنه بشاة يوم سابعه وحلق رأسه، وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين وأمر بشعره فدفن في الأرض وسماه إبراهيم... » (7)
وعاش إبراهيم ابن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام سنة وبضع شهور، يحظى برعاية والده صلى الله عليه وسلم، وبرعاية أمه مارية القبطية، فلما بلغ من العمر ستة عشر شهرا مرض مرضاً شديداً، وطار فؤاد أمه، فأرسلت إلى أختها لتقوم معها بتمريضه.. ولما مضت الأيام ولم تظهر عليه بوارق الشفاء، أرسلت مارية إلى أبيه حتى يراه، وجاد إبراهيم بأنفاسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهراً، وودعته أمه وهي تردد "إنا لله وإنا إليه راجعون".
وفاة مارية :
عاشت مـارية رضي الله عنها ما يقارب الخمس سنوات بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل الخلافة الراشدة، وتوفيت في السنة السادسة عشر من محرم .
ودعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس وجمعهم للصلاة عليها، فاجتمع عدد كبير من الصحابة من المهاجرين والأنصار ليشهدوا جنازة مـارية القبطية، وصلى عليها عمر رضي الله عنه في البقيع، ودفنت إلى جانب نساء أهل البيت النبوي، وإلى جانب ابنها إبراهيم.
قال ابن عبد البر : « وتوفيت مارية في خلافة عمر بن الخطاب، وذلك في المحرم من سنة ست عشرة ، وكان عمر يحشر النَّاس بنفسه لشهود جنازتها ، وصلى عليها عمر ، ودفنت بالبقيع » (.